سورة الأعراف - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين} سني القحط وهن سبع سنين، والسنة من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم {وَنَقْصٍ مّن الثمرات} قيل: السنون لأهل البوادي ونقص الثمرات للأمصار {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} ليتعظوا فينتبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر، ولأن الناس في حال الشدة أضرع حدوداً وأرق أفئدة. وقيل: عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في ثلثمائة وعشرين سنة، ولو أصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة} الصحة والخصب {قَالُواْ لَنَا هذه} أي هذه التي نستحقها {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} جدب ومرض {يَطَّيَّرُواْ} أصله {يّتطيروا} فأدغمت التاء في الطاء لأنها من طرف اللسان وأصول الثنايا {بموسى وَمَن مَّعَهُ} تشاءموا بهم وقالوا هذه بشؤمهم ولولا مكانهم لما أصابتنا. وإنما دخل {إذا} في الحسنة وعرفت الحسنة و{إن} في السيئة ونكرت السيئة، لأن جنس الحسنة وقوعه كالكائن لكثرته، وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ} سبب خيرهم وشرهم {عَندَ الله} في حكمه ومشيئته والله هو الذي قدر ما يصيبهم من الحسنة والسيئة {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} [النساء: 78] {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أصل {مهما} ما ما، فما الأولى للجزاء ضمت إليها {ما} المزيدة المؤكدة للجزاء في قوك {متى} ما تخرج أخرج {أَيْنَمَا تَكُونُواْ} [النساء: 78] {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف: 41] إلا أن الألف قلبت هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصري، وهو في موضع النصب ب {تَأْتِنَا} أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به، و{مّنْ ءايَةٍ} تبيين ل {مَهْمَا} والضمير في {بِهِ} و{بِهَا} راجع إلى {مَهْمَا} إلا أن الأول ذكر على اللفظ والثاني أنث على المعنى لأنها في معنى الآية، وإنما سموها آية اعتباراً لتسمية موسى أو قصدوا بذلك الاستهزاء {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان} ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل. قيل: طفا الماء فوق حروثهم وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره. وقيل: دخل الماء في بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، أو هو الجدري أو الطاعون {والجراد} فأكلت زروعهم وثمارهم وسقوف بيوتهم وثيابهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء {والقمل} وهي الدباء وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها، أو البراغيث، أو كبار القردان {والضفادع} وكانت تقع في طعامهم وشرابهم حتى إذا تكلم الرجل تقع في فيه {والدم} أي الرعاف.
وقيل: مياههم انقلبت دماً حتى إن القبطي والإسرائيلي إذا اجتمعا على إناء فيكون ما يلي القبطي دماً. وقيل: سال عليهم النيل دماً {ءايات} حال من الأشياء المذكورة {مّفَصَّلاَتٍ} مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله أو مفرقات بين كل آيتين شهر {فاستكبروا} عن الإيمان بموسى {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}.
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز} العذاب الأخير وهو الدم، أو العذاب المذكور واحداً بعد واحد {قَالُواْ يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} {ما} مصدرية أي بعهده عندك وهو النبوة، والباء تتعلق ب {ادع} أي ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك {لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل فلمّا كشفنا عنهم الرّجز إلى أجلٍ} إلى حد من الزمان {هُم بالغوه} لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله {إذا هم ينكثون} جواب {لَّمّاً} أي فلما كشفنا عنهم فاجأوا النكث ولم يؤخروه {فانتقمنا مِنْهُمْ} هو ضد الإنعام كما أن العقاب هو ضد الثواب {فأغرقناهم فِي اليم} هو البحر الذي لا يدرك قعره، أو هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأن المنتفعين به يقصدونه {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين} أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه بالقتل والاستخدام {مشارق الأرض ومغاربها} يعني أرض مصر والشام {التى بَارَكْنَا فِيهَا} بالخصب وسعة الأرزاق وكثرة الأنهار والأشجار {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى على بَنِى إِسْرءيلَ} هو قوله: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض} [الأعراف: 129] أو {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض} إلى {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} [القصص: 5]. والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة و{على} صلة {تَمُتْ} أي مضت عليهم واستمرت من قولك تم علي الأمر إذا مضى عليه {بِمَا صَبَرُواْ} بسبب صبرهم وحسبك به حاثاً على الصبر ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر ضمن الله له الفرج {وَدَمَّرْنَا} أهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من العمارات وبناء القصور {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} من الجنات، أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره. وبضم الراء: شامي وأبو بكر. وهذا آخر قصة فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله.
ثم أتبعه قصة بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر وغير ذلك، ليتسلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رآه من بني إسرائيل بالمدينة {وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر} روي أنهم عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعدما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكراً لله {فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ} فمروا عليهم {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} يواظبون على عبادتها وكانت تماثيل بقر.
وبكسر الكاف: حمزة وعلي. {قَالُواْ يا موسى اجعل لَّنَا إلها} صنماً نعكف عليه {كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} أصنام يعكفون عليها. و{ما} كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها. قال يهودي لعلي رضي الله عنه: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه. فقال: قلتم {اجعل لَّنَا إلها} ولم تجف أقدامكم {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى فوصفهم بالجهل المطلق وأكده {إِنَّ هَؤُلآء} يعني عبدة تلك التماثيل {مُتَبَّرٌ} مهلك من التبار {مَّا هُمْ فِيهِ} أي يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي. وفي إيقاع {هَؤُلاء} اسماً ل {إن} وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها واسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم ألبتة.
{وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ما عملوا من عبادة الأصنام باطل مضمحل.


{قال أغير الله أبغيكم إلهاً} أي أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً {وهو فضّلكم على العالمين} حال أي على عالمي زمانكم {وإذ أنجيناكم مّن ءال فرعون} {أنجاكم} شامي {يسومونكم سوء العذاب} يبغونكم شدة العذاب من سام السلعة إذا طلبها، وهو استئناف لا محل له، أو حال من المخاطبين، أو من {آل فرعون} {يقتّلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم} {يقتلون} نافع {وفي ذلكم} أي في الإنجاء أو في العذاب {بلآءٌ} نعمة أو محنة {مّن رّبّكم عظيمٌ وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً} لإعطاء التوراة {وأتممناها بعشرٍ} روي أن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهي شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك، فأوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك {فتمّ ميقات ربّه} ما وقت له من الوقت وضربه له {أربعين ليلةً} نصب على الحال أي تم بالغاً هذا العدد، ولقد أجمل ذكر الأربعين في (البقرة) وفصلها هنا {وقال موسى لأخيه هارون} هو عطف بيان {لأخيه} {اخلفني في قومي} كن خليفتي فيهم {وأصلح} ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل {ولا تتّبع سبيل المفسدين} ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
{ولمّا جآء موسى لميقاتنا} لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا. ومعنى اللام الاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا {وكلّمه ربّه} بلا واسطة ولا كيفية. وروي أنه كان يسمع الكلام من كل جهة. وذكر الشيخ في التأويلات أن موسى عليه السلام سمع صوتاً دالاً على كلام الله تعالى، وكان اختصاصه باعتبار أنه أسمعه صوتاً تولى تخليقه من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسباً لأحد من الخلق، وغيره يسمع صوتاً مكتسباً للعباد فيفهم منه كلام الله تعالى، فلما سمع كلامه طمع في رؤيته لغلبة شوقه فسأل الرؤية بقوله {قال ربّ أرني أنظر إليك} ثاني مفعولي {أرني} محذوف أي أرني ذاتك أنظر إليك يعني مكني من رؤيتك بأن تتجلى لي حتى أراك {أرني} مكي. وبكسر الراء مختلسة: أبو عمرو، وبكسر الراء مشبعة: غيرهما وهو دليل لأهل السنة على جواز الرؤية، فإن موسى عليه السلام اعتقد أن الله تعالى يرى حتى سأله واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر {قال لن تراني} بالسؤال بعين فانية بل بالعطاء والنوال بعين باقية، وهو دليل لنا أيضر لأنه لم يقل لن أرى ليكون نفياً للجواز، ولو لم يكن مرئياً لأخبر به بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه} بقي على حاله {فسوف ترياني} وهو دليل لنا أيضاً لأنه علق الرؤية باستقرار الجبل وهو ممكن، وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه، والدليل على أنه ممكن قوله {جعله دكاً} ولم يقل (اندك) وما أوجده تعالى كان جائزاً أن لا يوجد لو لم يوجده لأنه مختار في فعله، ولأنه تعالى ما أيأسه عن ذلك ولا عاتبه عليه ولو كان ذلك محالاً لعاتبه كما عاتب نوحاً عليه السلام بقوله:
{إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46] حيث سأل إنجاء ابنه من الغرق.
{فلمّا تجلى ربّه للجبل} أي ظهر وبان ظهوراً بلا كيف. قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: معنى التجلي للجبل ما قاله الأشعري إنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلماً ورؤية حتى رأى ربه، وهذا نص في إثبات كونه مرئياً، وبهذه الوجزة يتبين جهل منكري الرؤية وقولهم بأن موسى عليه السلام كان عالماً بأنه لا يرى ولكن طلب قومه أن يريهم ربه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهره} [البقرة: 55] فلطلب الرؤية ليبين الله تعالى أنه ليس بمرئي باطل إذ لو كان كما زعموا لقال أرهم ينظروا إليك ثم يقول له: لن يروني. ولأنها لو لم تكن جائزة لما أخر موسى عليه السلام الرد عليهم بل كان يرد عليهم وقت قرع كلامهم سماعه لما فيه من التقرير على الكفر، وهو عليه السلام بعث لتغييره لا لتقريره، ألا ترى أنهم لما قالوا له {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} لم يمهلهم بل رد عليهم من ساعته بقوله {إنكم قوم تجهلون} {جعله دكًّا} مدكوكاً مصدر بمصدر بمعنى المفعول كضرب الأمير والدق والدك أخوان. {دكاء}: حمزة وعلي. أي مستوية بالأرض لا أكمة فيها وناقة دكاء لا سنام لها {وخرّ موسى صعقاً} حال أي سقط مغشياً عليه {فلمّآ أفاق} من صعقته {قال سبحانك تبت إليك} من السؤال في الدنيا {وأنا أوّل المؤمنين} بعظمتك وجلالك، وبأنك لا تعطي الرؤية في الدنيا مع جوازها. وقال الكعبي والأصم: معنى قوله {أرني أنظر إليك} أرني آية أعلمك بها بطريق الضرورة كأني أنظر إليك {لن تراني} لن تطيق معرفتي بهذه الصفة {ولكن انظر إلى الجبل} فإني أظهر له آية، فإن ثبت الجبل لتجليها و{استقر مكانه} فسوف تثبت لها وتطيقها. وهذا فاسد لأنه قال: {أرني أنظر إليك} ولم يقل {إليها} وقال: {لن تراني} ولم يقل لن ترى آيتي وكيف يكون معناه لن ترى آيتي وقد أراه أعظم الآيات حيث جعل الجبل دكاً.
{قَالَ ياموسى إِنَّي اصْطَفيْتُكَ عَلَى النَّاس} اخترتك على أهل زمانك {برسالتي} هي أسفار التوراة {برسالتي}: حجازي {وبكلامي} وبتكليمي إياك {فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ} أعطيتك من شرف النبوة والحكمة {وَكُن مِّنَ الشاكرين} على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم.
قيل: خر موسى صعقاً يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم النحر. ولما كان هارون وزيراً وتابعاً لموسى تخصص الاصطفاء بموسى عليه السلام.
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح} الألواح التوراة جمع لوح وكانت عشرة ألواح. وقيل: سبعة وكانت من زمرد. وقيل: من خشب نزلت من السماء فيها التوراة {مِن كُلَّ شَيْءٍ} في محل النصب على أنه مفعول {كتبنا} {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام. وقيل: أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعبر لم يقرأها كلها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى {فَخُذْهَا} فقلنا له خذها عطفاً على {كتبنا} والضمير للألواح أو {لكل شيء} لأنه في معنى الأشياء {بِقُوَّةٍ} بجد وعزيمة فعل أولي العزم من الرسل {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} أي فيها ما هو حسن وأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55]
{سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} دَارَ فرعون وقومه وهي مصر، ومنازل عاد وثمود والقرون المهلكة كيف أقفرت منهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم أو جهنم {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي} عن فهمها. قال ذو النون قدس الله روحه: أبى الله أن يكرم قلوب الباطلين بمكنون حكمة القرآن {الَّذِينَ يَتكَبَّرُونَ} يتطاولون على الخلق ويأنفون عن قبول الحق. وحقيقته التكلف للكبرياء التي اختصت بالباري عزت قدرته {فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} هو حال أي يتكبرون غير محقين لأن التكبر بالحق لله وحده {وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ} من الآيات المنزلة عليهم {لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} طريق صلاح الأمر وطريق الهدى. {الرَّشد}: حمزة وعلي. وهما كالسقم والسقم {لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ} الضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ومحل {ذلك} الرفع أي ذلك الصرف {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بآياتنا} بسب تكذيبهم {وَكَانُوا عَنْهَا غافلين} غفلة عناد واعراض لا غفلة سهو وجهل {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بئاياتنا وَلِقَآءِ الآخِرةِ} هو من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها {حَبِطَتْ أعمالهم} خبر {والذين} {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهو تكذيب الأحوال بتكذيب الإرسال.
{واتّخذ قوم موسى من بعده} من بعد ذهابه إلى الطور {من حليّهم} وإنما نسبت إليهم مع أنها كانت عواري في أيديهم لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان فدخل داراً استعارها يحنث، على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم.
وفيه دليل على أن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها، نعم المتخذ هو السامري ولكنهم رضوا به فأسند الفعل إليهم. والحلي جمع (حلى) وهو اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة {حليهم}: حمزة وعلي للإتباع {عجلاً} مفعول {اتخذ} {جسداً} بدل منه أي بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد {لّه خوارٌ} هو صورت البقر والمفعول الثاني محذوف أي إلهاً. ثم عجب من عقولهم السخيفة فقال: {ألم يروا} حين اتخذوه إلهاً {أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلاً} لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل حتى لا يختاروه على من {لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته} [الكهف: 109]. وهو الذي هدى الخلق إلى سبيل الحق بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل في الكتب. ثم ابتدأ فقال: {اتّخذوه} إلهاً فأقدموا على هذا الأمر المنكر {وكانوا ظالمين ولمّا سقط في أيديهم} ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل. وأصله أن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه وقع فيها وسقط مسند إلى في أيديهم وهو من باب الكناية. وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم كما يقال (حصل في يده مكروه) وإن استحال أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين {ورأوا أنّهم قد ضلّوا} وتبينوا ضلالهم تبيناً كأنهم أبصروه بعيونهم {قالوا لئن لّم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا} {لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا} حمزة وعلي. وانتصاب {ربّنا} على النداء {لنكوننّ من الخاسرين} المغبونين في الدنيا والآخرة.
{ولمّا رجع موسى} من الطور {إلى قومه} بني إسرائيل {غضبان} حال من {موسى} {أسفاً} حال أيضاً أي حزيناً {قال بئسما خلفتموني} قمتم مقامي وكنتم خلفائي {من بعدي} والخطاب لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لهارون ومن معه من المؤمنين، ويدل عليه قوله {اخلفني في قومي} والمعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، أو حيث لم تكفوا من عبد غير الله، وفاعل {بئس} مضمر يفسره {ما خلفتموني} والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم. ومعنى {من بعدي} بعد قوله {خلفتموني} من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الشركاء عنه، أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن عبادة البقرة حين قالوا {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف {أعجلتم} أسبقتم بعبادة العجل {أمر ربّكم} وهو إتياني لكم بالتوراة بعد أربعين ليلة. وأصل العجلة طلب الشيء قبل حينه. وقيل: عجلتم بمعنى تركتم {وألقى الألواح} ضجراً عند استماعه حديث العجل غضباً لله، وكان في نفسه شديد الغضب وكان هارون ألين منه جانباً، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى، فتكسرت فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي هدى ورحمة {وأخذ برأس أخيه} بشعر رأسه غضباً عليه حيث لم يمنعهم من عبادة العجل {يجرّه إليه} عتاباً عليه لا هواناً به وهو حال من موسى {قال ابن أمّ} بني الابن مع الأم على الفتح ك (خمسة عشر) وبكسر الميم: حمزة وعلي وشامي، لأنه أصله أمي فحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة، وكان ابن أمه وأبيه.
وإنما ذكر الأم لأنها كانت مؤمنة ولأن ذكرها أدعى إلى العطف {إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} أي إني لم آل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار ولكنهم استضعفوني وهموا بقتلي {فلا تشمت بي الأعدآء} الذين عبدوا العجل أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلي {ولا تجعلني مع القوم الظّالمين} أي قريناً لهم بغضبك علي. فلما اتضح له عذر أخيه.


{قال ربّ اغفر لي ولأخي} ليرضي أخاه وينفي الشماتة عنه بإشراكه معه في الدعاء، والمعنى اغفر لي ما فرط مني في حق أخي ولأخي إن كان فرط في حسن الخلافة {وأدخلنا في رحمتك} عصمتك في الدنيا وجنتك في الآخرة {وأنت أرحم الراحمين إنّ الّذين اتّخذوا العجل} إلهاً {سينالهم غضبٌ مّن رّبّهم} هو ما أمروا به من قتل أنفسهم توبة {وذلّةٌ في الحياة الدّنيا} خروجهم من ديارهم فالغربة تذل الأعناق أو ضرب الجزية عليهم {وكذلك نجزي المفترين} الكاذبين على الله ولا فرية أعظم من قول السامري {هذا إلهكم وإله موسى} {والّذين عملوا السّيّئات} من الكفر والمعاصي {ثم تابوا} رجعوا إلى الله {من بعدها وءامنوآ} وأخلصوا الإيمان {إنّ ربّك من بعدها} أي السيئات أو التوبة {لغفورٌ} لستور عليهم محاء لما كان منهم {رّحيمٌ} منعم عليهم بالجنة. و{إن} مع اسمها وخبرها خبر {الذين} وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل وغيرهم عظم جنايتهم أولاً، ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أن الذنوب وإن عظمت فعفوه أعظم. ولما كان الغضب لشدته كأنه هو الآمر لموسى بما فعل قيل:
{ولمّا سكت عن مّوسى الغضب} وقال الزجاج: معناه سكن وقريء به {أخذ الألواح} التي ألقاها {وفي نسختها} وفيما نسخ منها أي كتب فعلة بمعنى مفعول كالخطبة {هدًى وّرحمةٌ لّلّذين هم لربّهم يرهبون} دخلت اللام لتقدم المفعول وضعف عمل الفعل فيه باعتباره {واختار موسى قومه} أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل {سبعين رجلاً} قيل: اختار من اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فبلغوا اثنين وسبعين رجلاً فقال: ليتخلف منكم رجلان فقعد كالب ويوشع {لّميقاتنا} لاعتذارهم عن عبادة العجل {فلمّآ أخذتهم الرّجفة} الزلزلة الشديدة {قال ربّ لو شئت أهلكتهم مّن قبل} بما كان منهم من عبادة العجل {وإيّاى} لقتلي القبطي {أتهلكنا بما فعل السّفهآء منّا} أتهلكنا عقوبة بما فعل الجهال منا وهم أصحاب العجل {إن هي إلاّ فتنتك} ابتلاؤك وهو راجع إلى قوله {فإنا قد فتنا قومك من بعدك} [طه: 85] فقال موسى: هي تلك الفتنة التي أخبرتني بها أو هي ابتلاء الله تعالى عباده بما شاء، {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] {تضلّ بها} بالفتنة {من تشآء} من علمت منهم اختيار الضلالة {وتهدي} بها {من تشآء} من علمت منهم اختيار الهدى {أنت وليّنا} مولانا القائم بأمورنا {فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا} وأثبت لنا واقسم {في هذاه الدّنيا حسنةً} عاقبة وحياة طيبة وتوفيقا في الطاعة {وفي الآخرة} الجنة {إنّا هدنآ إليك} تبنا إليك وهاد إليه يهود إذا رجع وتاب والهود جمع هائد وهو التائب.
{قال عذابي} من صفته أني {أصيب به من أشآء} أي لا أعفو عنه {ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ} أي من صفة رحمتي أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر إلا وعليه أثر رحمتي في الدنيا {فسأكتبها} أي هذه الرحمة {للّذين يتّقون} الشرك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم {ويؤتون الزكواة} المفروضة {والّذين هم بآياتنا} بجميع كتبنا {يؤمنون} لا يكفرون بشيء منها {الّذين يتّبعون الرّسول} الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن {النّبيّ} صاحب المعجزات {الأمّيّ الّذي يجدونه} أي يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل {مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف} بخلع الأنداد وإنصاف العباد {وينهاهم عن المنكر} عبادة الأصنام وقطيعة الأرحام {ويحلّ لهم الطّيّبات} ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها، أو ما طاب في الشريعة مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت {ويحرّم عليهم الخبائث} ما يستخبث كالدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة ونحوهما من المكاسب الخبيثة {ويضع عنهم إصرهم} هو الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحراك لثقله، والمراد التكاليف الصعبة كقتل النفس في توبتهم وقطع الأعضاء الخاطئة.
{آصارهم} شامي على الجمع {والأغلال الّتي كانت عليهم} هي الأحكام الشاقة نحو: بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم وظهور الذنوب على أبواب البيوت، وشبهت بالغل للزومها لزوم الغل {فالّذين ءامنوا به} بمحمد صلى الله عليه وسلم {وعزّروه} وعظموه أو منعوه من العدو حتى لا يقوي عليه عدو وأصل العزر المنع ومنه التعزير لأنه منع عن معاودة القبيح كالحد فهو المنع {ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه} أي القرآن {ومع} متعلق ب {اتبعوا} أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته {أولئك هم المفلحون} الفائزون بكل خير والناجون من كل شر.
{قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم} بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الإنس وكافة الجن {جميعاً} حال من {إليكم} {الّذي له ملك السموات والأرض} في محل النصب بإضمار أعني وهو نصب على المدح {لآ إله إلاّ هو} بدل من الصلة وهي {له ملك السماوات والأرض} وكذلك {يحيي ويميت} وفي {لا إله إلا هو} بيان للجملة قبلها لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة، وفي {يحيي ويميت} بيان لاختصاصه بالإلهية إذ لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره {فئامنوا بالله ورسوله النّبيّ الأمّيّ الّذي يؤمن بالله وكلماته} أي الكتب المنزلة {واتّبعوه لعلّكم تهتدون} ولم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قوله {إني رسول الله إليكم} لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً من كان أنا أو غيري إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه {ومن قوم موسى أمّةٌ يهدون بالحقّ} أي يهدون الناس محقين أو بسبب الحق الذي هم عليه {وبه يعدلون} وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون.
قيل: هم قوم وراء الصين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج، أو هم عبد الله بن سلام وأضرابه.
{وقطعناهم} وصيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض {اثنتي عشرة أسباطاً} كقولك اثنتي عشرة قبيلة، والأسباط أولاد الولد جمع سبط وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام. نعم مميز ما عدا العشرة مفرد فكان ينبغي أن يقال اثني عشر سبطاً، لكن المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكل قبيلة أسباط لا سبط فوضع {أسباط} موضع (قبيلة) {أمماً} بدل من {اثنتي عشرة} أي وقطعناهم أمماً لأن كل أسباط كانت أمة عظيمة وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى {وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بّعصاك الحجر} فضرب {فانبجست} فانفجرت {منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كلّ أناسٍ مّشربهم} هو اسم جمع غير تكسير {وظلّلنا عليهم الغمام} وجعلناه ظليلاً عليهم في التيه {وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى} وقلنا لهم {كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا} أي وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم {ولكن كانوآ أنفسهم يظلمون} ولكن كانوا يضرون أنفسهم ويرجع وبال ظلمهم إليهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6